في عالم الأدب والشعر، تتجلى الكلمات كأنها قطرات غيث تنعش الروح وتسحر الحواس. تصف القصيدة العلاقة المستترة بين الحبر والقصيدة، حيث تغلف الموسيقى الروحية كل حروفها المزينة بالاشتياق والشغف. الشاعر يسكب كلماته في صفحات الوقت، فتتراقص بين أنامله كأنها أوتار موسيقية تتغنى للشجر وللحبر الذي يسيل كالنهر. هناك تداخل جميل بين الواقع والأحلام، حيث الحركة بينهما تبدو كسيمفونية ساحرة، إذ تغفو الروح في عناق الأبيات، تشرب من فيض الخيال دون أن توقظها حقائق الزمان. هذه المواجهة بين الشاعر وكلماته تحاكي تردد النغمات في الكون، وما ينتج عنها من أبعاد شعرية جديدة تغوص في أعماق الفكر والمشاعر. إن هذا النص يمثل رحلة تأملية تتسم بالجمال والتأمل، مستحضرة واقعاً ينضح بالإبداع، مؤكدًا أن الشعر هو الفجر الذي لا ينطفئ.


البارحة، بينما كنت أنا ورفيقاتي نخوض لعبة "الغميضة"، أغمضت عيوني ووضعت رأسي على الحائط لأقوم بالعد كالمعتاد. ومع انتهاء العد التنازلي، فتحت عيوني لأجد أن الزمن أخذنا لواقع مغاير. كل واحدة منهن قد استقرت في مكانها، بأدوار جديدة في الحياة؛ واحدة كانت في غرفة ولادة تجلب الحياة إلى العالم، وأخرى ترتدي ثوب الزفاف الأبيض ممسكة بباقة من الزهور، وثالثة غارقة في عسل الحب ودفء العلاقات الحميمية. أما الرابعة، فقد رأيتها تعتني بأطفالها الصغار وهي تحاول تنظيمهم في صحن الطعام بأيديها الحانية، لتطمئن على قلوبهم ومعدتهم. أما أنا، فإذ بي لم أزل في مكاني، مجردة من الخواتم اللامعة أو من شريك يؤازرني، متقمص جسد امرأة ترى العالم بعينيها، لكن دون أن يرافقه خاتم ارتباط في يده ولا رفيقة يشاركها مسيرته. هكذا كانت لعبة الغميضة هذه المرة، فرصة للتفكر في مسارات الحياة المختلفة لكل منا.


البارحة، أثناء لعبة الغميضة، وبينما أغمضت عيوني ووضعت رأسي على الحائط، انطلقن الصديقات وبنات العائلة ليختبئن في أنحاء المنزل. بعد أن انهيت العد العكسي ووصلت إلى "خمسة أربعة ثلاث اثنان واحد"، فتحت عيوني لأكتشف أن كل واحدة منهن اختارت زاوية من زوايا الحياة. وجدت إحداهن في غرفة الولادة، تنتظر طفلها بفرح وترقب. أخرى كانت ترتدي فستان العروس الأبيض، غارقة في حلم الليلة الكبيرة. ثالثة كانت تعيش في عسل الحب، محاطة بقلوب تفيض عاطفة ومودة. بينما كانت واحدة تلاحق أطفالاً صغاراً في صحن طعام، تصبو إلى إراحة قلب الأم بابتسامة منهم. أما أنا، فلم أتحرك من مكاني؛ أحببت دور المراقبة الصامتة. ومع ذلك، أدركت أنني تقمصت روح امرأة تعيش حياتها بحرية، بلا خاتم ارتباط في يدها ولا رفيق يشاطرها الطريق، لكنها لا تزال تملك الكثير من الأحلام لتحققها.

في عالمٍ يزخر بالعلاقات المعقدة والمشاعر المتباينة، تظهر لي حبيبةٌ بطور التشكّل؛ تتمازج طموحاتها مع تقاليدها كما تتمازج الألوان على لوحة الرسام الماهر. تلك الحبيبة تجد السكينة في مؤانسة العصافير البريئة، وكأنها تبحث عن خفة الحياة وبساطتها بعيداً عن تعقيدات المجتمع. تتغذى من ولائم الثعالب، في إشارةٍ إلى مرونتها وقدرتها على التكيّف مع الأوضاع الصعبة والمواقف المعقدة. رغم حنان أمها الذي ربما يراه البعض ملاذًا دافئًا، تفضل الحبيبة الانصراف، خشية أن تتأثر بعدوى الحنان التي قد تسلبها قدرتها على المواجهة. إنها لا تخشى التحدي، بل تعارك الديوك بشغفٍ يُحفّزها روح المغامرة والجرأة. وما يثير الفضول أكثر هو قدرتها على النوم طويلاً، كأنها تهرب من مواجهة أحد الأعمق المشاعر البشرية - الحب - لتبقى متحفظة على كلمات الحب، مترددة في أن تهبها على طبق من دفء.


النور الآتي يشبه الأفق الذي ينبلج من رحم الليل، معلنًا بداية جديدة لأحلام تتجاوز حدود المعقول وتتوشح بعباءة الممكن. إنه يزحف برفق، يمد أذرعه ليحتضن كل ما هو مبتلٍ بظلال الشك، فيمنحه الأمل واليقين. يتدفق النور كنهر هائم، يغمر بتدفقه الأرواح المتعطشة للتغيير، ويضفي على الوجود بريقًا من الصفاء والراحة. إن الشعاع الأول من الفجر لا ينير فحسب، بل يوحي بما قد تصاغ منه ألحان الحكايات الجديدة، التي تنسج تفاصيلها من دموع الفرح وبركات الصلوات الخاشعة. مع كل إشراقة، تتجدد عهود المحبة والسلام، لتُزرع في قلوب البشر أمنيات تفيض بالخير والتفاؤل. النور يمضي كخيط من الذهب في نسيج الحياة، حيث تلتقي كل لحظة بنقطة تحول، تُكتب في سفر الوجود بأحرف من ضوء، ليبقى الأمل حاضرًا والدروب المظلمة أقل وحشة. وبالرغم من أن انعكاساته الأولى تخرج خجولة من بين السحب، إلا أنها تحمل في ثناياها وعدًا بالدفء والضياء، لتثبت أن النور، مهما طال غيابه، حتمًا آتٍ ليبدد الظلمات ويضيء دروب الحياة.




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عقل ناطق بقلم الباحث و المفكر فادي سيدو