دراسة نقدية للمشهد المسرحي من مسرحية الشرنقة _ بقلم الباحث و المفكر فادي سيدو
مسرحية "الشرنقة" للكاتبة المسرحية رشا الحسيني تُعد من الأعمال الأدبية المميزة التي تمزج بين الخيال والأسطورة، وتطرح قضايا فلسفية تتعلق بالوجود والتحديات التي يواجهها الإنسان في حياته. يُفتتح المشهد بانبثاق بطل القصة، سيريوس، من الشرنقة محاطًا بمبنى غامض لا يحمل ملامح الحياة الخارجية، حيث تقف أربع فتيات يُغنين بألحان حالمة تدعو لاستكشاف الأسرار المكنونة خلف الجدران المغلقة للزمان. يحاول سيريوس مرارًا كسر الحواجز والتواصل مع هذا العالم الغامض، مما يجعله يسير في درب يسوده الغموض والأساطير.
يتناول هذا المشهد من النص المسرحي أهمية فهم الإنسان لذاته وموقعه في الكون، ممثلًا برحلة سيريوس الشاقة والمليئة بالتحديات. تحتل عناصر مثل "الشرنقة السادسة" و"عريس بنات إبليس" و"الأفول العظيم" مكانة خاصة في القصة، كونها رموزًا تعكس الصراع بين النور والظلام، والحرية والعبودية. من خلال محاولاته المتكررة لكشف النقاب عن الألغاز التي تحيط به، يصبح سيريوس رمزًا للشجاعة والبحث عن الحقيقة في مواجهة الظلام والفتنة.
العناصر الرمزية والأسطورية في المشهد المسرحي من مسرحية "الشرنقة"
يتضمن هذا المشهد من مسرحية "الشرنقة" العديد من العناصر الرمزية والأسطورية التي تضفي بعدًا عميقًا وتجريديًا على العمل المسرحي بشكل عام. أحد الرموز المركزية في هذا المشهد المسرحي هو الشرنقة ذاتها، والتي ترمز إلى حالة السكون والتحول، حيث يشهد الشاب سيريوس تجربة انتقالية من الجهل إلى المعرفة، ومن الظلام إلى النور. هذه الشرنقة تمثل الحالة التي يمر بها الفرد أو المجتمع عندما ينمو ويتغير ويتجاوز القيود.
المنزل المغلق بدون نوافذ أو أبواب يعبر عن الغموض والعزلة، ويحتوي على معانٍ مثل التحجر في الأفكار أو الانغلاق على النفس في مواجهة التغيرات المتسارعة. الفتيات الأربع اللواتي يظهرن على السطح هن كائنات أسطورية تحمل دلالات الغموض والجمال الفائق، ويشبهن بنات البحر أو حوريات الماء في الأساطير، يثرن الدهشة والخيال بأغانيهن الممزوجة بالتأوهات الشجية.
الظل الطويل المُظلم يجسد قوى الشر والخوف التي تعيق سيريوس في بحثه عن الحقيقة والتحرر، ويعكس تأثير قوى الشر والظلال الكبرى مثل "عريس بنات إبليس"، في إشارة لأشكال الشرور الجماعية أو المهيمنة في تراثنا الثقافي والرمزي. هذا الظل قد يرمز إلى التحديات الداخلية التي يواجهها الإنسان في مقاومته للشرور والنوازع السلبية في النفس البشرية.
من خلال هذه العناصر الرمزية والأسطورية، يمزج هذا المشهد المسرحي من مسرحية "الشرنقة" بين التأمل الشخصي العميق والبعد العالمي للأساطير، مما يجعلها نصًا غنيًا بالرموز القادرة على التفاعل مع القارئ بشكل متعدد المستويات، وهي بذلك تعكس بسالة الإنسان في مواجهة القوى الغامضة والمتعددة في الحياة.
تأثير القصائد الغنائية في تطوير الشخصية الدرامية
في هذا المشهد من مسرحية "الشرنقة" للكاتبة رشا الحسيني، تلعب القصائد الغنائية دورًا حيويًا في تطوير الشخصية الدرامية وتعمق عمقها النفسي، خاصة فيما يتعلق بشخصية سيريوس. هذه الأغاني والموشَّحات تساعد في إظهار التوترات الداخلية والتغيرات العاطفية التي يمر بها الشخصيات عبر تعبيرات شاعرية قادرة على إظهار المشاعر بدون الحاجة إلى حوار مباشر. فعلى سبيل المثال، تصف الأغاني التي تغنيها الفتيات الأربعة من على سطح المبنى الوضع المأساوي الذي يجدن أنفسهن فيه، وتعكس أجواء من الإغراء والغموض.
الغناء يُعتبر أداة درامية مكملة، حيث يخلق توازناً بين المنطوق والموسيقية، مما يخدم في تطور الشخصية الدرامية ليتجاوز السطح ويستعرض ما يجول في داخلها من تأملات وحيرة وبحث عن الذات. سيريوس، الذي يجد نفسه في مواجهة مع الظل الطويل المظلم، يعبر من خلال الأغاني عن صراعه مع الشكوك واندفاعه نحو البحث عن الحقيقة فيما يحيط به، فيصبح الغناء صدى لمكنونات شخصيته.
علاوة على ذلك، تُستخدم الأغاني كوسيلة لربط سيريوس بالعالم الأسطوري المحيط به، حيثُ تنعكس من خلالها الصراعات الدائمة بين الخير والشر، فيزداد إدراكه بشكل تدريجي ويدرك مهمته في كسر الخداع الذي يمارسه إبليس. يبرز الغناء كصوتٍ داخلي يوجه سيريوس ويفتح له الأفق نحو الفهم الكامل لما يجري حوله، مظهرًا قدرته على التمييز بين الزيف والحقيقة، مستلهماً قوته الداخلية من الألحان الساحرة التي ترافق رحلته الدرامية.
التناص السردي بين المأساة والملهاة في المشهد المسرحي من مسرحية "الشرنقة"
في هذا المشهد المسرحي من مسرحية "الشرنقة"، يتجسَّد التناص السردي بين المأساة والملهاة بشكلٍ متقن ومبتكر، ما يضفي على النص عمقًا واستفزازًا فكريًّا. المأساة تتجلى في رحلة سيريوس، الذي يجد نفسه محاصرًا في عالمٍ مُتجرِّدٍ من النوافذ والأبواب، ومن خلال صراعه الداخلي مع الشيطان، تصبح المأساة متجذِّرة في تمزق الذات والإحساس بالفقدان المستمر. على النقيض، تجد الملهاة طريقها عبر التفاعل الساخر مع الشخصيات الثانوية مثل الشحاذ، الذي يطرح تساؤلات عميقة بتهكُّم يُثير الضحك والتأمل في آنٍ واحد.
المشهد المسرحي ينجح في استغلال التناص بين المأساة والملهاة لإبراز التناقضات الإنسانية وتعقيداتها. على سبيل المثال، عندما يخدع الشيطان سيريوس بظهوره في صورة امرأة تُغويه بالحب، تُظهر المسرحية كيف يمكن للملهاة أن تحول المأساة إلى عنصر ساخر، إذ أن خداع إبليس يكشف عن سذاجة الإنسان في الحب وتعريضه لخطر الفناء.
هذا التناص يُستخدم أيضًا لجعل الجمهور يُدرك أن الحياة ليست سوى مزيجٍ من التراجيديا والكوميديا، حيث تُظهر اللحظات المأساوية في المسرحية التراجيديات الكبرى مثل الأفول العظيم أو النهايات الفاجعة التي يُمكن أن تكون موضعًا للسخرية. ومع كل لحظة فاشلة لسيريوس في كشف الغموض أو الوصول إلى الفتيات، يتحول الموقف من فجيعة إلى حسٍ كوميدي يُدخل البهجة.
التناص في هذا المشهد المسرحي من مسرحية "الشرنقة" يساهم في تعميق فهم المُشاهد لتعقيدات الحياة، ويطرح سؤالًا جوهريًّا حول هوية الإنسان في مواجهته لكل من المأساة والملهاة، وكيفية التعايش معهما معًا في قالبٍ واحدٍ.
في الختام،
يُختَتَم المشهد المسرحي من مسرحية "الشرنقة" برؤية مُعقَّدة ومُتداخِلة للأبعاد النفسية والفلسفية؛ إذ تُحلِّق المشاهدُ فوق عالَمي الضياء والظلام، لتكشف عن حقيقة الصراع الأبدي بين الخير والشر، وهو صراعٌ يتجلى في رمزية الشرنقة التي هي بمثابة القيد والهروب إلى خلاص داخلي. يُجسد سيريوس، النجم الساطع والرمز للقوة المستمدة من النور، رحلة ذاتية للبحث عن الحقيقة والتقدير الذاتي، مضحيًا بلوعة الماضي واستعادته.
تعود القيمة الأدبية العظمى لهذا المشهد المسرحي إلى قدرتها على تقديم مستويات متعددة من التأويل، حيث تتمازج الأسطورة والخرافة بالواقع الحياتي، لتُبرز سؤالًا مركزيًا حول ماهية الوجود والهوية. تتجسّد الحبكة في تحويل النجم إلى بطل دراميٍّ يُقاوم الإغراءات والمخاوف الداخلية، ليحقق انتصاره الشخصي والكوني في آنٍ واحد. عبر اللعب على وتر الضياع والاختيار، توظف المؤلفة الرمزية بمهارة، لتحديد قدرة الإنسان على تجاوز ذاته وتحقيق غايته الروحية. إن "الشرنقة" بذلك ليست مسرحية فحسب، بل رحلة تأملية تُنبئ بالأفول العظيم وتجسُّد العريس الأوسط في تجديدٍ دائم للصراع الإنساني.
تعليقات
إرسال تعليق