برزخ المعتقل
في معتقل الصقيع، استسلمت أرواحنا للزوال. دفنت أحلامنا في عمق لا نهاية له. صرخنا، لكن صمتنا كان أشد صوتًا. تلاشينا في الظلمة، ولم يبقَ منا سوى ذكرى متجمدة. وفجأة، انفتح كهف المعتقل على ضحكة معتقل متوفي يكتشف هيكلنا المتجمد.
اهتزت أرواحنا في غياهب الظلمة، محتضنة صمت التراب وزمهرير الكفن. عبثًا حاولنا الصراخ؛ خانتنا الحنجرة المكلومة. لقد سبقه الموت، وبات القبر معتقلاً أبديًا.
في غبار الذاكرة المتقادم، حيث تئن شجون الفقد الوجيعة تحت وطأة النسيان الغاشمة، وعدنا الجثة الميتة في المعتقل أن نخطو على دروب القبور الموحشة معًا، نعيد إلى رتج الأجداث رفيف الأرواح المعتق، وننثر على القبور ورود الحنين. لكن الأيام الجافية ألقت أثقال القدر، فإذا بنا وحدنا نقف على عتبة القبر الصماء، وقد كتب عليه: "رحلت الكرامة، وبقي المعتقل اليتيم."
غرفة المعتقل الصامتة احتضنت الكاتب المعتقل، يقاوم صمته الجاثم. فجأة، دلفت عليه قطة سوداء كالحبر الدامس، قالت له: "الكتابة ليست ملاذًا للهروب، بل مواجهة جريئة". عندما رفع قلمه، وجد أن الكلمات كانت تنزف دم المعتقلين الزكية، كجروح روح كُشفت على الملأ.
في هذا المعتقل، يئنُّ المعتقلين تحت وطأة الانقسام، تعصَّب شيخانِ متجاورانِ، لكلٍّ منهما أتباعُه. سنواتٌ عجافٌ قضتها أيديولوجياتُهما المتصارعةُ في جدالٍ صاخبٍ، تعوي فيه الولاءاتُ وتتجمدُ القلوبُ.
نظر شيخُ الشرقِ بغضبٍ: “بلاءٌ جلبتهُ طليعتكم من مغربِكمُ المشؤومِ!”
فأجابهُ شيخُ الغربِ بحدةٍ: “بل نذيرُ شؤمٍ أطلقهُ سعيُكمْ نحو الحرية!”
لينتهي الجدال بصوت الجلاد و هو يصرخ: معتقلٌ سحرته شيطانةٌ قَصِيَّةٌ.
من بعدها : تراءى محيا طفلٍ بِكْرٍ في مرآةٍ، ثم انقلبَ المشهدُ لوجهِ شيخٍ هَرِمٍ، نُحِتتْ عليه تجاعيدُ الدهرِ.
ليصرخ الجلاد: هاتوا لي ذاك الشاب النحيل ، ليزجوا به في المنفردة المظلمة بجانب جثة هامدة ، و هنا:
تأرجحت الأنا ... تتمرّغ بين أجنحة الضوء الزائفة وكهوف المنفردة الموحشة. على ضفاف الروح القاحلة، رقصت أشباح الجثة، وعلا عويل الكراهية المعتّقة. لم يدرك الشاب هشاشة المنفردة، كقشرة بيضة تُسحق، إلا بعد فوات الأوان. أيّة نشوةٍ عابرة تتضوّع برائحة الدم الموحل من الجثة الهامدة! وأيُّ ارتواءٍ زائفٍ يولد من فوهة حقد الجلاد القاتل! بقي لنا فقط صهيل الصمت المدوّي؛ يدعونا لغسل النفوس بماء التصالح الزلال، واجتثاث جذور البغضاء من تربة الفؤاد المتعطشة، كي تنبعث نباتات السلام من رماد الحروب، شاهدةً على أنبل غايات الوجود: التعايش المتسامح.
لكنّها كانت مجرد صرخةٍ أخيرةٍ اختنقت بصحراء البقاء العطشى، تلاشت كأثير حلم باهت. فجأةً، تحطّمت كل الأوهام؛ توّجت الكراهية نفسها ملكةً على الأطلال. ونحن، في غفلتنا المُميتة، لم نكن سوى دمىً راقصةٍ تحت وهمٍ كاذبٍ سميناه "القائد الخالد"؛ بينما كنا نحتفل، منذ البدء، بخرابنا المحتوم.
تعليقات
إرسال تعليق