في لحظةٍ من الزمن، حيث تلتقي النظرات وتلتف الأحداث حول كأس تُركت بلا قصد أو ربما بقصدٍ عميق، جلست تلك السيدة في مقهى بين ربى "توتشال"، مثيرةً بجمالها وشغفها المحيطين بها. كيف يُمكن الإنسان أن يُنكر لحظة الالتقاء تلك، التي تجمع بين توقعات الحب وبين السقوط في غياهبه؟! لم يكن الحِسُّ إحساساً متماثلاً، لكن الضحكات والتمايل كان لهما أثرٌ بارز. الغموض كان سيّد الموقف عندما تناقضت الشفتان بين التعبير عن الحب وبين كتمان أعمق المشاعر. هنا يُبرز التأمل في معنى التجاذب بين الأرواح وكيف تنكشف عبر تلك اللحظات العابرة التي تظل في الذاكرة، معلّقة بين الاحتمالات التي لم تتحقق والمشاعر التي لم تُعبّر كاملة.


محبوس في دهاليز الذاكرة التي تخترقها الكلمات، تلك التي تبرعمت بين أصابعي كأنها تبحث عن سبيل للنجاة بالنطق من مأزق الحزن الارتجالي. تحت صخر المعاني تظل صنارة اللسان عالقة، مخنوقة بصوت الحمام الحزين ونواح اللاطمات تحت سرادق العويل. هذه الجدران تبصق مساميرها، وأجد نفسي محبوسًا إلى الأبد، مقيدًا بشرايين الذاكرة المتورمة والمملوءة بالزعيق. أُشبّه نفسي بمتهم بالسطو موشوم بالصرع الخلّاق، وكلما تحررت نفس من سرداب الفم، ترصّني قضبان الذكريات المتخمة بالمسروقات من الأيام الميتة، تلك الأيام الحافيات التي تركت خلفها عفنًا ينمو وآثار الراحلين، وجمرًا يتقد بأحلام الحالمين. وجّه إليّ حكيم كلمات: "خطوتان ويقتلُك لحمُك"، فإذ بخطواتي تتوجه نحو سقوط لا عودة منه. أفرطت في الحديث الملول مع نفسي حتى امتلأ صدري بالموتى، تاركًا وراءه بالونًا متجسدًا من الموتى المهيمنين، ومعه أخرج في رحلة عميقة مع خيط الذاكرة، حيث تفقس الأوهام داخل متاهة الضياع. لم أستطع ترك أي دليل على تورط هذه الحياة، فالذين سقطوا بنواياهم مع الدموع التهمتهم، وها أنا ألعق أصابعي بالنسيان ولا تجف. أشعر بالجوع الآن، والذاكرة تهضم خيالاتي، غير راغب في أي حرف إضافي من خبز الضاحكين. في وسط هذا الصراع الداخلي، أبحث عن بصيص من الأمل، ربما في صوت ضياء غائب يستحضر رائحة الغد المفقود، مع كل محاولة للنطق تتخبط الكلمات في حلق الزمن ليعاد تشكيلها بالفقد، فألملم شتاتي لأقذف نفسي في هوة الصمت، عسى أن يتجلى فيه نجاة الروح من قيود الذكريات المتهالكة.

تُشبه الحياة مسرحية تتوسطها ملحمة من الصراع الأزلي، حيث أضحت عيون الزمان غارقة في رمادية الأيام، تفقد بريقها وحماستها كما يتآكل الدرع على رأس المحارب في وسط المعركة. لا انفصام عن سلاسل الذاكرة التي تغزو أفكاري كأنها جيش محتل، تُعيد كل لحظة سقطت فيها وتزاحمت عليّ التحديات. ذلك القيد الخفي بيني وبين دفء البداية، كأن روحي منذ ولادتها رُحلت بعيدًا لتواجه وحدها زخم العالم، تواجه شظايا ذكرى الخسارة ونُحاسب على كل لحظة هدوء نادرة أجدها وسط ضجيج الأفكار المشتتة. صوت الحقيقة في أذني وهن، وانقلبت الأمنيات الزرقاء إلى ألوان باهتة لا ترضى إلا بذكريات تحملها الرياح بعيدًا. العالم فقد نقاءه في عينيّ، وحتى النغمات التي داعبتني في صباي باتت ثقيلة كأطنان من الحزن التي تُسدل ستارًا على المسرح الذي تُعلِبُ فيه الحياة تفاصيلها القاسية. لا أزال ألاحق بقايا الأحلام، أحاول أن ألوح لها كما يلوح الغريق لأملٍ عابر، مُحاربًا في رحلة نحو فهم ما ازداد تعقيدًا، وما الأمل الضئيل الذي يبعث الحياة في نفسي إلا شعلة تُؤجج الإصرار على الوصول إلى ذاك الضوء الخافت من المعاني السامية، في عالمٍ تتهاوى فيه السعادة كأوراق الخريف. الرحلة هي سبيلنا نحو الفهم والتحرر من ظلال الذكريات التي تأسر أفكارنا وتسلبنا منّا كل محاولة للهروب نحو أفق جديد.


تُشبه الحياة مسرحية تتوسطها ملحمة من الصراع الأزلي، حيث أضحت عيون الزمان غارقة في رمادية الأيام، تفقد بريقها وحماستها كما يتآكل الدرع على رأس المحارب في وسط المعركة، تتقاطع اللحظات التاريخية بزخرف من الحروب والتحديات. يكاد يكون الزمن مُظلماً تماماً منذ اللحظة التي قُطِع فيها الحبل الرابط بيني وبين حنان الأم، فأُصبحتُ مُحارباً بلا عودة. كأنني وُلدتُ مُقيداً بقماط أبيض يُشبه الكفن، ومنذها رُحلت روحي بعيداً عن دفء الخالق، وأصبح كل شيء يحمل في طياته ذكرى الخسارة، حتى الأفكار التي كانت تحمل أمواج الأمنيات الزرقاء انقلبت لتصبح مشوشة ومُلوثة. صوت الحقيقة بات ضعيفاً في أذني، والنغمات التي كانت يوماً تُشعل الفرح صارت تميل إلى الحزن، وشعرتُ بأن نقاء العالم قد انكسر بمجرد أن تلذذت بفواكه الدنيا المرة، والغاية ذاتها كانت عسيرة الفهم وأنا أخظو أولى خطواتي في الرمال التي تقتحم جسدي يوماً بعد يوم، فيما يبقى النصف الآخر من حياتي غارقاً في محيطٍ من الجدل والفُراق، ولا يُراني أحد إلا وأنا ألوح لتلك الأحلام علها تعود. الرحلة، إذن، هي الطريق الذي نسلكه نحو ذلك الضوء الذي تشتعل به رغباتنا، وحتى وإن تباعدت أنغام السعادة، يبقى السعي نحو المعاني السامية هو ما يُبقي على أملنا متوقداً.


في دهاليز الذاكرة تمتد خيوط القصص كشبكة عنكبوت محكمة، تتماسك كل خلية منها لتعيد تشكيل واقع جديد وشعور يعج بالأسرار. تلك الخيوط، رغم تعقيدها وتداخلها، تحمل بين طياتها طوق النجاة لفهم الذات والغوص في أعماق النفس البشرية. اللسان، الذي كان يومًا قيادياً لموكب الأفكار، يشعر بالخيبات والانتكاسات، لكن يبقى محافظًا على دفق من نور الأمل المتجدد. الحياة كمسرح معقد، حيث لا تُقدم الانتصارات دون تضحية، وعين الزمان لها قدرة استثنائية على تلوين الأحداث بروح الزمان والمكان. السلاسل الخفية للذاكرة قد تبدو ثقيلة ولكنها في جوهرها تمنحنا العمق والإدراك. لكأن الذاكرة تمارس علينا سيطرة ساحرة، تربطنا بالماضي بينما نصارع لفهم واستشراف المستقبل. في هذا الالتباس بين الذاكرة والحاضر، يكمن سر الحياة وسحرها، حيث تبقى الاستمرارية والاستفادة من دروس السنين هي المفتاح لفهم أعمق وتجربة أكثر غنى. ليست هناك نهاية قاطعة للتجارب، لكن هناك فرص لا نهائية لاكتشاف الجمال الكامن في انسيابية الزمن وتناسق اللحظات التي تمر كنسيم بين يديّ الحاضر والماضي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عقل ناطق بقلم الباحث و المفكر فادي سيدو