الرَّبُّ في العرفان الصوفي يظلّ كيانًا فريدًا متعاليًا، لا يُمكن تقاسمه ولا يماثله شيء في الوجود. فهو لن يُشتقّ من شيء ولا يُوجد داخل أو على شيء، ولا يحتاج إلى شيء أو يفتقر إليه. تصورنا لله يشير إلى تنزيهه عن أي خصائص أو أفعال قد تُشابه مخلوقاته. كما أكّد الإمام علي (ع): "كلُّ موجودٍ في الَخلْقِ لا يوجدُ في ذاتِ خالِقِهِ"، مما يبرز أن الإفراد والتوحيد هو محور الإيمان الحق، حيث إن الله واجب الوجود الأوحد بلا مثيل أو قرين. فأي محاولة لتصويره أو تحديده في إطار محدد تُفضي إلى الجهل بحقيقته. وبذلك، فإن الله يتعالى عن التوصيف والتحديد البشري، إنما يُعرف بالتفكر والتدبر في عظمة خلقه وتجليات حكمته. وكل من يتأمل هذا بمنظار البصيرة يصل إلى قمة وغاية العرفان الحقيقي، حيث لا مكان للشركة أو الظن في أفعال الرب وصفاته وماهيته. فالربُّ هو البديع بلا ندٍّ، والاقتران به أو تشبيه يجرّنا إلى مغالطات البشر وحدود الفكر القاصر.


في الفلسفة الإلهية، يُعتبر فهم طبيعة الرب من أعقد الموضوعات التي تُناقش. فمن المسائل المثيرة للتأمل قضية الصمت والكلام كصفات تُنسب إلى الرب. إن طبيعة الرب لا يمكن أن تُحَد دون الإشارة إلى وجود عوالِم العقل والحس، وذلك قبل وجود هذه العوالم، لم يكن للرب أن يكون صامتًا أو متكلِّمًا، حيث أن الصمت والكلام يتطلبان وجود مستمع ومخاطب. يقدم الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) رؤى معمقة حول هذا الموضوع بقوله: "مَه، كـانَ ولا مـكـانٌ ولا دَهرٌ ولا زمانٌ ولا ليلٌ ولا نهارٌ"، مما يشير إلى حالة أولية للوجود الإلهي غير مرتبطة بقيود الزمان والمكان. بعد أن تحقق التجلي الإلهي بوجود هذه العوالِم، أصبح بالإمكان وصف الرب أنه يمتلك صفتَي الصمت والكلام، حيث صار له من يتوجه إليه بهذا الوجود. بناءً على ذلك، لا يجدر بنا وصف الرب بالصمت أو الكلام إلا بعد وجود العوالم التي تستدعي هذه الصفات، مما يُبرز أهمية البُعد الأكثر تجريدًا عند التعامل مع صفات الرب ويعزز الرؤية القائلة بأن الإله يبقى فوق مستوى الفهم البشري الاعتيادي.

هذا اليوم يشكل موضع تفكير عميق حول قدرة الرب وتأثيره الواسع الذي يتجاوز المفاهيم الجزئية والحسية التي قد ينشغل بها الإنسان العادي. بمراجعة الآية التي تُرشدنا إلى التمسك بتعاليم الرب دون انحراف أو زيغ إلى اليمين أو اليسار، يتضح لنا أن جوهر الله أسمى من أي تصور أو تشبيه بالمخلوقات أو الأجناس الطبيعية مثل النار. إن السمات الإلهية والأفعال المعروضة للعقل الظاهر والحس المحسوس لا تُدرك إلا عبر عالم الفكر والتأمل العميق؛ حيث يحافظ الرب بكينونته على انفصاله عن هذه الخصائص والأفعال العابرة والمحدودة. منطقتنا الصوفي يضع الله في مكانة لا يطالها العرض أو الجوهر المحسوس والمعقول، لكون جميع الكائنات تعتمد في قيامها على الجوهر ذاته، بينما يظل الجوهر بذاته قائماً ولا يحتاج لمن يدعمه في وجوده.

في هذا اليوم شاهدنا تأملات في طبيعة الرب وكماله الأبدي، حيث يدعونا التأمل لنفهم أن الله يكفل الإنسان ويهبه الحياة وفق إرادته السامية. وقد بانت لنا دلالات عظيمة تشير إلى تنزيه الخالق عن أي مشابهة مع النار أو أي عنصر مادي آخر، كما يتجلى في النصوص التي تأمرنا بضرورة العمل وفق ما يمليه الرب دون الميل عن الطريق القويم لا يمينًا ولا يسارًا. هذا التنبيه يعيد التركيز على أهمية الحفاظ على توازن بين عالم العقل وعالم الحس، حيث إن جميع السمات التي يعبر عنها الخالق تبرز بشكل موازن لعالم الحس والعقل، لكنها بحد ذاتها تظل متفردةً وغير مرتبطة بطبيعة العالم المحسوس أو المعقول. بل إن الجوهر الإلهي يتمايز عن هذه السمات العرضية والماهيات المحدودة التي تعتمد الوجود بدورها على هذا الجوهر الكامل، وليس العكس. وفي إطار هذا السياق الصوفي العميق، يبرز منطق يستثني الرب من أي سمات أو أفعال عارضة، مؤكدًا على أنه غير مقيد بأي قيد من المقاييس الدنيوية المحدودة.

إنّ مفهوم الإرادة يرتبط بعلاقة معقدة بين العقل والوجود الإلهي، حيث يُعتبر العقل حاضناً للإرادة في بنيته المفاهيمية. بينما يُنظر إلى الرب كنقطة تَجرد عن أي سمات تُخصص أو تُعين، فهو فوق التصنيفات والإعلانات الوصفية أو الموضوعية. الإرادة، في مفهومها الفلسفي، تتواجد كعنصر عقلي، وهي تحمل في طياتها تعبيراً عن الرغبة والنية، لكنّها تظل مجردة في حالة الرب، فلا تُقيّده كصفة، ما ينسجم مع الرؤية التي طرحها أرسطو عندما أكد أن الفعل الإلهي يتجاوز الإرادة لأنها تتضمن طِلباً أو احتياجاً، والله مكتفٍ بذاته. وعليه فإن الملكوت لا يُدرك بالادعاء فقط بل بالعمل على تحقيق إرادة الأب السماوي، مما يعمق الفهم لفعلية الإرادة الإلهية كمصدر لكل الإرادات البشرية الصالحة.

الإرادة تُعد من المفاهيم الأساسية والدقيقة في الفكر الفلسفي والديني، حيث تشير إلى القوة التي تمكّن الإنسان من اتخاذ القرارات وتنظيم الأفعال لتحقيق الأهداف المرجوة. تُبرز أهمية الإرادة في السياقات الدينية المختلفة، حيث تُعتبر أداة لتحقيق التفرد الروحي والتواصل مع الألوهية.

يتحدث النص عن مفهوم الإرادة وارتباطها بالعقل الذي يفكر ويخطط، موضحًا الفارق بين الإرادة كقدرة مميزة للعقل البشري، وبين الألوهية التي تُعتبر في جوهرها فوق كل درجات التمييز والفعل. الإرادة، رغم قوتها وتأثيرها، ليست ذات طابع إلهي في جوهرها، وذلك إقرارًا بأن الفاعل والصفة هما كيانات مستقلة عن جوهر الربوبية.

يعكس النص تطور الفهم الديني والفلسفي للإرادة، حيث يتم التفريق بين إرادة البشر وإرادة الألوهية. فالإرادة البشرية هي انعكاس لرغبات ومطالب، في حين أن الإرادة الإلهية متعالية على المفهوم التقليدي للإرادة باعتبارها تتضمن الطلب والحاجة.

ركز النص كذلك على أهمية تنفيذ الإرادة الإلهية كمفتاح لفهم العمق الروحي، مشيرًا إلى تعاليم السيد المسيح في فهم مفهوم الإرادة وكيف أنها تمثل فعل الإعتراف والعمل بتناغم مع الإرادة السماوية.

أرسطو، الفيلسوف اليوناني، أدرك هذا الفارق عندما أشار إلى أن الألوهية تتنزه عن الإرادة لأنها تستلزم الطلب، وهذا ما يناقض طبيعة الألوهية الكاملة التي لا تحتاج لشيء خارج ذاتها.

في الختام، فهم الإرادة يتطلب تمييزًا دقيقًا بين الأفعال البشرية والطبيعة الإلهية، وسعيًا إلى تحقيق التوازن في أداء الإرادة الشخصية بما يتناسب والقيم الروحية السامية.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عقل ناطق بقلم الباحث و المفكر فادي سيدو