في أوج اللحظات التي تلتقي فيها الأحلام بالواقع، نجد أن الفراق كان يتراءى على بعد دهر، وكأنه محال الوصول إليه. يبدو أن الزمن يطوي بين جناحيه أسراراً لا تُدرك إلا بمحطتين. كيف استطاع من كانت المسافات بينهم تكتب الدهر سطوراً، أن ينصاعا لخطوتين تُختصر فيهما كل الحكايات؟ بينما يعزف الربيع ألحان الورود الزاهية، نجد أن ضجة تلك الألوان تنحسر سريعاً إلى دمعتين، وكأن الندى الذي ارتوى منه القلب ذُوي في لمح البصر. التناقض هنا يكمن في قدرتنا المحدودة على استيعاب كيف تتحول رمزية الفراق البعيدة إلى واقع ملموس بتلك السرعة، وكيف يمكن للعواطف المتقدة أن تخفت أمام سطوة الواقع وواجباته.

لقد تسللت لحظات الفراق بغتة كبردٍ ليليٍّ يجتاح دفء الربيع، فتتبدل زقزقات العصافير إلى صمتٍ موحش، وتتحول أزهار الورد التي كانت تضج ببهاء وجودها إلى طيفٍ باهت، يرافقه دمعتان تُنهكان بريقها المتألق. رغم أن الفراق لم يكن إلا على بعد دهر وبعيد، جاء مُجسّداً في خطوتين، وكأن الزمن اختزل مئات الأميال في لحظة عابرة. كيف للورد أن يصرخ بألوانه الزاهية في أرض الربيع، ثم يتوارى وينزوي وكأن أشعة الشمس تجرّدت من دفئها؟ إنها معجزة الوقت وتناقضات الحياة التي تزيد غموض الفراق وإثارته للأسئلة حول ماهية الاستكانة والانحسار إلى دوامة الحزن ورحيل النسمات.



همستْ في أذنه بلطف، متسائلةً بصوت يغمره الأمل والرغبة في الوصل: "حتَّى متى؟!"، فكأنها تسأل عن المدة التي سيظل فيها وجهه البهي غائباً عن حاضرها الملون بزهور الرّبيع، ذلك الفصل الذي يجمع بين نسمات الهوى وأفراح الطبيعة. تراه لوحة من الجمال المتجدد، قائلاً في نفسه: "وأنا الرّبيعُ المستريحُ على تفاصيلِ الدّروبِ"، ليعبر عن الراحة والطمأنينة التي يجدها في دروب الحياة عندما يتشاركها معها. في كل زقاق، في كل منعطف، يشعر بوجودها، وكأنها تنثر الورود في كل خطوة يخطوها. أينما ولَّى وجهه، حيثما ارتحلت روحه، فإنها تتطلع إلى آفاق بشائرها، التي تظلله بالأمنيات والألحان، منتظرة اللحظة التي تلتقي فيها نظراتهما من جديد، لتكتمل الصورة ويُكتب فصل جديد في حكاية حب مستمر.


همست له بحزنٍ مشوبٍ بالأمل، سائلة: "حتى متى؟!"، وهي تراه يهرب بوجهه من حاضرها الذي يفيض بوجوده. هي الربيع المتجسد في مسيرتها، تزهر أينما مضت وتعطر أجواء المحيط بتفاؤلها وبهجتها. كل خطوة تخطوها على تفاصيل الدروب تزرع فيها فرحًا متجددًا وانبعاثًا للحياة. وأينما توجه بروحه، يجد نفسه محاطًا ببشائرها وعطائها المستمر، كأنما القدر قد كتب لها أن تكون نوراً وضاءً في كل مسار يسلكه. ولكن، ومع كل هذا الوهج والنور، يبقى السؤال قائماً كظلٍ لا يفارقها، يحمل في طياته توقاً لمعرفة متى سيتوقف عن الهروب ويواجه تلك الحقيقة الواضحة الجليّة.

إن الحلم برفقته أصدق من الحياة، حيث أن في الأحلام تتجلى الإمكانيات بلا حدود وتتحطم القيود التي قد تفرضها الواقع. الأحلام تمنحنا الفرصة لاستكشاف عوالم جديدة وتجربة أحاسيس قد نكون غير قادرين على عيشها في حياتنا اليومية. برفقة الأحلام، نتمكن من تعديل ذواتنا وتجديد طاقاتنا، فهي ملاذ للأفكار الإبداعية والأماني الدفينة. إذ بينما تعج الحياة بتحدياتها ومعتركاتها المستمرة، تظل الأحلام واحة من السكينة والصدق، تمنحنا زادا من الأمل والإلهام. تعكس الأحلام رغباتنا الحقيقية وتكشف عن أعمق دوافعنا، مما يجعلها مرآة صادقة لما يختلج في نفوسنا بعيداً عن التصنّع أو الخداع الذي قد يكتنف أحياناً أوجه الحياة المختلفة.

في أحضان تلك اللحظة الساكنة بين يد الله، حيث يتجلّى الأبد بلا تردّد في امتداد زمني يشبه انحناءة طيفٍ في مرايا النور، أشعر بالطمأنينة كغيمةٍ مُرْتَاحة أُلْقِيَ ثِقْلها على صدر الأفق. تلك الغيمة لا تسأل عن المطر، كأنما تكتفي بوجودها الهادئ على مسرح السماء، حاملةً في ثناياها سلامًا داخليًا لا تهزّه اضطرابات الزمن ولا تشوبه لحظات التردّد. في هذه الصفحة السماوية المفتوحة، يصبح الصمت بليغاً، والعقل يجد في السكون إجابةً لكل تساؤلات الوجود؛ ينحني الزمن خجلًا أمام عظمة اللحظة، تاركًا الروح تهيم في سكينة ما وراء الحدود المادية، لتستقر في تلك الأبدية اللانهائية التي تحتضن كل الكائنات.

في عالم من الهدوء الملتبس والسكينة الساحرة، تتراقص الكلمات عبر السطور، محملة بمعاني تتجلى في خطوةٍ خفية تفتح نافذة الريح، فتتحرر الأبعاد من قيودها التقليدية لتكشف عن مشاهد من التأمل والصفاء. في هذا السياق الرمزي، ينفرد الظل بالغناء، متحاوراً مع الأرواح الخفية في تناغم فريد يعكس عالماً من الوجدان والطبيعة، حيث تلتقي الأصوات بالصمت في لوحة منسوجة من الجمال الخلاق. هذه اللحظات الهاربة تشكل رمزاً للبحث الدائم عن المعنى والسعي وراء الأصوات الهادئة التي تتحرك في صمت، وتروي حكاية تستحق الإصغاء والتفكّر. إن الظل هنا لا يمثل مجرد انعكاس ضوئي، بل يرتقي ليصبح كياناً مستقلاً بصوته الخاص، يستدعي تأملات فلسفية عن الوجود والمعرفة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عقل ناطق بقلم الباحث و المفكر فادي سيدو