إنَّ من أصعب القضايا الفلسفية والروحانية التي واجهها الإنسان على مر العصور هي محاولة فهم والتعرف على جوهر التجلي الإلهي. وقد أشار الإمام علي (ع) إلى محدودية العقل البشري في استيعاب عظمة الخالق بقوله: "لا تُقدِّرْ عظمةَ الخالقِ على قدرِ عقلِكَ فتكونَ من الهالكين." وهذا يؤكد لنا أن العقول مهما بلغت من قوة وتفكير، تظل عاجزة عن إدراك الهيولى أو الكينونة الإلهية التي لا يمكن للعقل أن يصورها أو يحدها، ولا للسان أن يصفها أو يبلغها القول. وعند تأمل عبـارات أهل الشهود نجد أن إدراك جوهر الهيولى يعتبر من أكثر الأمور تعقيداً واستحالة، يقول الإمام علي (م): "َجزُ عن دَركِ الدَّراكِ إدرَاكُ... والبحثُ في سرِّ ذاتِِ إشراكُ هذه الحقائق تسلط الضوء على ضرورة الاعتراف بحدود الإدراك البشري عندما يتعلق الأمر بأسرار الوجود الإلهي.


بينما يرتبطُ الاستدلالُ البرهانيُّ في منطقِنا العُلْويِّ بصناعةِ البرهانِ بصفته أداةً لتحقيق المعرفة الأعمق والأكثر دقة، فإنه ينأى بنفسه عن القياسات التقليدية والسابقة التي ربما تعتمد على الظنون أو الاحتمالات غير المتيقنة. فالبرهان كما يراه منطقنا يمثل يقينا مطلقًا يتوافق مع الحكمة، ولا يحتمل الخلاف أو التباين البتة، وهذا يتماشى مع ما نُقل عن سيدنا المسيح (ع) من أن غاية كل علم تكمن في تلك الحكمة. يتجانسُ هذا الفهم مع نظرة المعلّم الأول أرسطو الذي عرّف البرهان بالمؤتلف اليقيني، مؤكدًا أن البرهان الحقيقي هو ذلك الذي يكون معترفًا به في ذواتنا ولفائدتنا، مستمدًا من الحقائق التي نعرفها ونؤمن بها. في هذا السياق، يصبح البرهان ليس مجرد أداة لتحقيق المعرفة الفلسفية أو النظرية، بل أداة تتجاوز ذلك نحو تحقيق الحكمة المطلقة التي تسعى إليها كافة العلوم في نهاية المطاف.


فمِن شــروط البرهـان حصولُ اليقيِن بظرفِ الاتِّصالِ، لأنَّ اليقيَن بالْمُسَلَّماتِ لا يَحتاجُ إلى توسُّـــطٍ لوجـودِ الرَّبِّ، ولا يمكنُ الاســتدلالُ عليه إلَّا بالبرهانِ الْمُؤلَّفِ من خمسةِ حدودٍ مُرتبطةٍ بالحدِّ الأوسطِ الذي يُدعى مقام العلمِ. هذه الحدود تُشكل جسراً منطقياً يؤدي إلى تكوين معرفة صحيحة ومتفقة مع العقل والمنطق، وهو ما يجعل من عملية الانتقال من المنطق النظري إلى البرهان محسوسة وقابلة للقياس. إن الذين يعتمدون على هذه العناصر بعناية ودقة يصلون تدريجياً إلى مستويات أعلى من التفكير تمتد إلى الإلهيات، والتي تتطلب وعياً فكرياً عميقاً لأنها تمس أبعاداً قدسية ومعرفية عليا. لذا، يكون الخوض في الإلهيات مسألة حساسة تتطلب قدراً كبيراً من الاهتمام والتحليل الدقيق، مما يغني عن التعامل السطحي أو الفهم المجرد. وبذلك، يصبح الاتصال وتوظيف الحدود الخمسة بمثابة الوسيلة الأكيدة للوصول إلى المعرفة اليقينية والبرهانية التي تلتحم مع المبادئ الإلهية.


تعدُّ البراهين من المستلزمات الأساسية لاكتساب الفهم العميق في مجالات العلوم الطبيعية وما يتجاوزها من المباحث الإلهية، حيث إن البرهان يسهم في رفع مستوى التفكير والنفس إلى مستويات أعلى وتجسد روح الفلسفة. هذا ما دفع الفيلسوف أفلاطون أن يشترط على جميع الملتحقين بأكاديميته أن يكونوا متمكنين من البراهين، لأنها الوسيلة الفعالة التي تُمكن المتعلم من الانتقال من عالم الإدراك الحسي إلى عالم الفهم العقلي. ومن هنا يمكننا الإ إلى كتاب "أصول إقليدس"، الذي يُعتبر منوز الفكر في الفلسفة والعلم، لاحتوائه على المبادئ العقلية والمبرهنات الهندسية التي لا غنى عنها في فهم الطبيعة. إن اكتشاف القوانين الرياضية والهندسية من خلال البراهين ليس فقط يعزز من قدرتنا على التحليل والتف، بل يربطنا جوريًا مع الجوانب الأعمق لوجودنا وفهمنا للعالم.


إنَّ التشريع المسيحي يختلف بشكل جوهري عن التشريع الموسوي، حيث يعكس كلاهما فلسفات وأطرًا دينية واجتماعية متعددة تميز بينهما. فعلى مر العصور، تطورت المسيحية في ظل مجموعة من التأويلات والحث على الروحانية والرموز التي تسعى إلى تجاوز الشكل الظاهري نحو العمق الروحاني، بينما يركز التشريع الموسوي بشكل أكبر على النصوص الصريحة والقوانين المحددة في التوراة. تلك الفروق لم تقتصر على التطبيق الديني فحسب، بل تسببت في اختلافات فلسفية وفكرية بين أتباع الديانتين. مما أدى في كثير من الأحيان إلى انقلاب التعامل من الجوهر إلى مجرد الالتصاق بالش الظاهري، وهو ما أوجد حالة من التباين في الآراء بين من استبدل التأويل العميق بالنصوص الحرفية. وعلاوة على ذلك، فإن هذا الاختلاف في الف قد أتاح مجالاً ليعبر الإله عن إظهار اللبس على الذين ينكرون الرسالة ويكفرون بالحقائق الجوهرية التي تتجاوز الإطار الحسي، مما تمثل في معاقبتهم بسبب تركيزهم على الظواهر الملموسة ونكرانهم للمعانيعم التي تشكل التشريع والإيمان الحقيقي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عقل ناطق بقلم الباحث و المفكر فادي سيدو