إن التجلي يُعتبر من أعظم المعارف التي يجب على السالكين الإلمام بها
وفهمها، ويُعَدُّ معرفته من الأمور الجوهرية التي لا غنى عنها في رحلتهم الروحية
والفكرية. ففي سعي الإنسان إلى فهم التجلي، نجد أن العقل والحس يتضافران للوصول
إلى الإقرار بأن المتجلي هو الأحد المتفرد الذي لا يخضع لأي صور من الازدواجية،
وهذا يتماشى مع قول الإمام علي (ع) "الأحد لا بتأويل عدد"،
الفكرة المطروحة في هذه العبارة تناقش مفهومًا فلسفيًّا وروحيًّا معقدًا يتعلق بالطريقة التي ينبغي بها أن نتعامل مع الجواهر والحقيقة، بعيدًا عن محدودية الفكر واللغة. من خلال النظر في الرؤية الأولى، نرى أن محاولة وضع هذه الجواهر تحت تقدير العقل وحدوده ووصف اللغة قد يؤدي إلى نتائج غير صحيحة، حيث يُشبِه هذا النهج من يحد مداها ويقع في طيات الشرك، إذ يجسد الأشياء بالطريقة التي تجعلها محدودة. بينما الخيار الثاني يُعنى بمن ينفي وجود تلك الجواهر ويعطل الكشف عنها بشكل كامل، وهذا يمثل تعطيلًا للفهم الحقيقي ويؤدي إلى خسران جوهر الوجود. أما الخيار الثالث فيراه العديد من الفلاسفة والمتصوفة كطريق الاعتدال، حيث يُثبت وجود الجواهر الإلهية أو الحقائق المضمرة، ويُبعدها عن السمات والحدود الإنسانية المألوفة، وهو مسلك يعبر عن السالك المحق، الذي يدرك القواعد الأزلية للأشياء دون تحريفها أو إنكارها، متجاوزًا بكل انسيابية إطار العقول والحواس إلى أفق التجلي المطلق. هذا النهج يعكس تبني رؤية أعمق تتمحور حول استيعاب الجواهر بمعزل عن القوالب المعتادة، حيث يكون التركيز على التجربة الباطنية والتجلي الروحي القائم خارج حدود المفاهيم والأطر الفكرية المحدودة.
يُعتبر فهم هذا النص جزءًا من التحليل العميق للفلسفة الروحية والمعرفية التي تقع في جوهرها. يُبرز النص تحدي التوفيق بين الفكر البشري وقدرته على إدراك المطلق ومحدودية هذه القدرة أمام جوهر المطلق. فالشخص الذي يسعى إلى تقليص المفاهيم الروحية العميقة إلى مجرد تصورات عقلية أو أوصاف لغوية يُعتبر كمَن يُشبه أو يُشرك، إذ يحاول تقريب ما لا يُدرك بالعقل إلى مستوى الفهم البشري المحدود، مما قد يؤدي إلى تشويه الفهم العميق للوجود. في المقابل، من ينكر القدرة على معرفته أو تجلّيه كليةً يُعتبر معَطلًا، ينفي شهود الحقيقة بأي شكل من الأشكال. أما المسار الوسط، الذي يراه النص كمسار حق، فهو من يقرّ بوجود تجلّيات للمشهود دون تقييده بحدود وماهيات المفاهيم البشرية، معترفًا باستقلالية جوهر المطلَق عن التصورات الإنسانية. هذا هو الطريق الذي يسلكه السالك المحق، حيث يتعامل بروحانية عميقة ومنفتحة على إمكانية الفهم دون تشويه أو إنكار.
في النص المذكور، يتم تناول ثلاثة مواقف فلسفية تجاه الجوهر والظاهر والمشهود. الأول هو من يُخضع جوهر المشهود لتقدير الأفكار ووصف اللسان وإدراك العقل والحواس، وهذا يعد تشبيهاً وشركاً لأنه يقيد المطلق ويتجاهل طبيعته اللا محدودة. الثاني هو من ينفي الشهادة وينكر وجودها، فيعتبر معطلاً لأنه يحرم نفسه من إدراك الحقيقة وإمكانية التواصل مع الجوهر المطلق. وأما الثالث هو من يثبت تجلي المشهود دون أن يقيد ذاته بسمات وحدود، فهو سالك محق، يسعى للوصول إلى معرفة عميقة تتجاوز السطحية الظاهرة وتصل إلى العمق الداخلي للوجود. هذا النهج الثالث يعكس توازنًا بين الإدراك والمطلق، بين الشكل واللا شكل، حيث يُعترف بتجلي الحقيقة دون أن تُحبس في قوالب حسية أو فكرية محددة، مما يتطلب فهماً وإيماناً يتجاوز الحدود التقليدية للعقل واللغة.
تعليقات
إرسال تعليق