في اللحظة التي خذلتك فيها الفساتين، وتلاشى بريقك أمام وهجها الباهت، بدأت تفك أزرارها الخلفية بحركة مليئة بالترقّب والتوقع. تبدت تلك اللحظة كتجسيد للخيبة والتلاشي، إلا أن المدهش في الأمر أن ظهورها بجلال مظهرها العاري، كأنها تأتي لتبث الحياة في كيانك المتأرجح بين الواقع والحلم. تلك اللحظة الحاسمة تنبثق لتعيد إليك شعلة الشغف وتنفخ روح التجديد في أركان أحلامك المتناثرة. فكانت كلمحة من النور وسط بحر من العتمة، تلخص معركة داخلية لطالما كنت جزءًا منها في سعيك نحو الكمال والجمال. كشفت عن جوهر إنسانيتك ووعيك، مُظهرةً أن العري قد يكون أصلاً لتألُّق جديد.



الشعرُ هو فيضُ الإبداع الأدبي الذي ينقل المشاعر من واحة الأفئدة إلى بساتين العقول، متشحًا كل مساء بحُلّة النجوم ليحكي لنا قصص الأرق وأماكن الهدوء. يحمل بين ثناياه محيطًا من العواطف يمتزج بأنغام الموسيقى الخفية لقلوبنا، ليبين لنا مدى ما تستهلكه العيون من سهد بانتظار نور الفجر. كل قصيدة تشبه رسائل العشق التي تسبح في الأثير، محتوية أنين المحبين وصفاء الطبيعة، لتلقننا أصداء التساؤلات التي تتسلل إلى ظلام الليل وتصاحب الأرواح في مسيرتها الأزلية نحو النور.



في زقاق الزمن، وقفنا وحدنا، ننظر إلى التفاحة المعلّقة كالقنديل، تضوي بوهجها الخافت. استحضرتنا جنّتنا الصغيرة، حيث كنا طفلين بريئين يتقمّصان أحلام البساطة والبراءة. كانت تلك اللحظات مليئة بالسكون والرضا، منقطعة عن ضجيج العالم وصخبه. تفاحة واحدة كانت تكفي لتعيد إلينا ذكريات الطفولة، حيث كنا نظن أن الدنيا بأكملها تختصر في تلك الحديقة الصغيرة التي احتضنت براءتنا. ومع هذا القنديل المتأرجح، استشعرنا عظمة اللحظات البسيطة وكيف يمكن لها أن تحمل في طياتها عمقًا لا يُقدر بثمن.



لم يدرك العذّال من سفه بهم أن للقصائد في هواك ثواب. إن كانت أبصارهم عمياء عن رؤية جمال الروح والدهشة التي يرسمها حضورك في قلوب المحبين، فإن حروف الشعراء تتوهج بين يديك مثل نجوم في ليلٍ داجٍ. القصائد، يا من تعانق بحور الشعر، تترجم مشاعر الحب والولاء لروحك النقية بطريقة تتخطى حدود الزمن والمكان. وإن كانوا يرونها مجرد كلمات، فهي لنا تسبيحات عشق يتلوها قلب متيم يبحر في أعماق وجدانك. نعم، لم يدركوا أن ثواب القلب الشاعر هو تلك اللحظات التي يلتقي فيها النبض بالحرف، ويزهر الحب رغم السفه.


في عمق الليل وسكونه، تجد الروح ملاذًا لتنهيداتها بين الأسطر التي تبوح بها، وكأن الكلمات جناح يحمل أثقال الحزن دون صوت. طويتُ جناحَ حرفيَ في هدوءٍ، ومازال الحُزنُ يختلج في زوايا قلبي، يكادُ يقضي عليَّ. في هذه اللحظات الهادئة، ألتجئ إلى الأوراق بلهفتي الحرّى، أبحث عن سكينة تستوعب أشجاني. بين السطور، أكتمُ حسرةً غائرة، وكأنني أموت حيًّا، أزرع بذور الحزن بصمت وأرويها بأغاني الروح الحزينة. في تلك النفحات الليلية، يصبح القلم شريكًا في الألم، وجناحًا يمتد ليعبر محيطات الصمت، يروي ما عجزت الأقوال عن البوح به في وضح النهار.


حُسنكَ، الذي كان غلافاً يغلف قاموسي الغزلي، كان بمثابة الصورة المثالية التي تسيَّجت بها حروفي ومشاعري. البارحة، قررتُ بجرأة أن أمزقه بأظافري، كما لو كنتُ أحاول تحرير نفسي من سطوة جمالك الذي كان يسجنني في قيدٍ من الحروف. قراري هذا لم يكن وليد لحظة عابرة؛ بل كان نابعاً من رغبةٍ ملحة في استعادة السيطرة على كلماتي ومشاعري. الآن، بعد أن خلعتُ عن نفسي ذلك الغلاف الزائف، أود أن أسألك: هل تشعرُ بتحسنٍ كما أشعر أنا؟ هل وجدتَ حريةً في بُعدي عنك كما وجدتُها أنا في الابتعاد عن قيدك؟ هذا التساؤل يتردد في خاطري، ويبدو أن الزمن وحده كفيلُ بالإجابة عليه.


يخرُج جمالكِ عن طوره مثل نجمٍ ساطع في ليلةٍ حالكة، يأسر الأبصار ويغوي العقول بصريخه المستتر. أحياناً، يبدو هذا الجمال وكأنه سلاح ذو حدين يُباغتني بلا استئذان، ليحملني في عالم من المشاعر الغامضة والدافقة. عندما يتحرّش بي جمالكِ، يشبه تأثيره الرياح العاصفة التي تقلب الموازين وتجعلني أعيد صياغة أفكاري ومفاهيمي. هذا الجمال المدهش، يشَكّل لي تحدياً لفهمه واستيعابه، ويحرّضني على السعي المستمر لاكتشاف أعمق معانيه وأسراره المتوارية بين طياته.


في العمق الأثيريّ لليل البارد، حيث تُلاحقني أشباح الرغبة بشهواتٍ تقطُر بين أصابعي، لا شيء يمكنه إشعالي سوى فكرة الموت الحتمي فوق سراجك. كأنَّ روحي تنتظر لحظة الانتقال إلى قبرها، حيث تجسدت جثتي متوشحة بالظُلمة، مترقبة ورود الزهرات البيضاء فوق شاهدة القبر. الأنفاس تتسارع، والمخيلة تسافر عبر الزمن لتستذكر اللحظات التي سيطر فيها الموت على الحواس، منتزعًا حرارة الحياة ليعلقها فوق السروج الجوفاء في هذه الليالي القاسية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عقل ناطق بقلم الباحث و المفكر فادي سيدو